الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن
.القول الثاني: والمعروف أن هذه الآية نزلت بعد فترة الوحي، فكانت أول ما نزل على الرسول بعدها. فلعل جابرا سمع من الرسول حديثه عن أول ما نزل عليه من القرآن بعد فترة الوحي فاعتبر ذلك أول ما نزل على الإطلاق. وأنه- رضي الله عنه- استخرج ذلك باجتهاده، وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روته عائشة. .القول الثالث: وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة. فانطلقا، فقصّا عليه، فقال: «إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد! يا محمد! فأنطلق هاربا في الأفق» فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه: «يا محمد! قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} حتى بلغ: {وَلَا الضَّالِّينَ}». فلا يقوى على معارضة حديث عائشة رضي الله عنها السابق في بدء الوحي، ولم يقل بهذا الرأي إلا قلة من العلماء، منهم الزمخشري صاحب (الكشاف). .القول الرابع: ومما ذكرناه تعقيبا على الأقوال الثلاثة المتأخرة يترجح القول الأول، وهو أنّ أوّل ما نزل صدر سورة (اقرأ). .2- آخر ما نزل: ومن الأقوال التي وردت: أن آخر ما نزل قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وهي خاتمة سورة النساء. أو أن آخر ما نزل هو سورة الفتح: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}. أو أن آخر ما نزل سورة المائدة، وفيها قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3]. وأصح ما يجاب به عن هذه الأقوال؛ أنها أواخر نسبية: فآية الكلالة آخر ما نزل في المواريث، وأن سورة المائدة آخر ما نزل في الحلال والحرام، وقد اتفق العلماء على أن آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] نزلت يوم عرفة من حجة الوداع. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى لما نزلت هذه الآية، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال: أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا، فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. قال: «صدقت». فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أما سورة: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فإنها آخر ما نزل مشعرا بوفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام، ويؤيده ما روي من أنه صلّى الله عليه وسلّم قال حين نزلت: «نعيت إليّ نفسي» وكذلك فهم بعض كبار الصحابة. وأما آية: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] فهي آخر ما نزل مطلقا على الأرجح، ويؤيده ما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يمكث بعدها إلا تسع ليال أو سبعة أيام، ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى. .الفصل الثالث نزول القرآن وفقا للأسباب والحكمة من ذلك: وتنقسم آيات القرآن إزاء هذا الموضوع إلى قسمين: قسم نزل ابتداء، أي بدون سبب من الأسباب، وموضوع هذا القسم غالبا: الحديث عن الأمم الغابرة وما حلّ بها، أو عن وصف الجنة والنار. وقسم نزل عقب حادثة أو سؤال، ومعظم موضوعات هذا القسم: التشريع والأحكام والأخلاق. .1- حكمة ارتباط الآيات بأسباب النزول: .2- أمثلة لأسباب النزول: 2- أخرج الحاكم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، أنه جاء عبد الله بن أم مكتوم- وهو ضرير- فقال: يا رسول الله، أرشدني، وعند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعض عظماء المشركين، فجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعرض عنه ويقبل على الآخرين، فنزل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى} [عبس: 1- 4]. 3- وأخرج الحاكم والترمذيّ عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ} [آل عمران: 195]. .3- أهمية معرفة أسباب النزول: ونذكر هنا مثالين للدلالة على أهمية العلم بأسباب النزول: المثال الأول: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]. إذ قد يفهم من الآية أن يتوجه المصلي في صلاته إلى أي جهة يشاء، وأنه لا يجب عليه أن يولّي وجهه شطر المسجد الحرام، ويستوي في ذلك المسافر والمقيم. ولكننا عند ما نعرف سبب النزول لهذه الآية يظهر لنا أنها تقتصر على أحوال معينة، وليست حكما عاما يعفي من التوجّه إلى المسجد الحرام؛ فقد روى البخاري ومسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها نزلت في صلاة المسافر النفل على الراحلة أينما توجّهت. المثال الثاني: قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} [البقرة: 158]. من المعروف أن السعي بين الصفا والمروة جزء من شعائر الحج واجب الأداء، وعبارة (لا جناح) في الآية الكريمة لا تفيد الوجوب، وقد أشكل هذا على عروة بن الزبير فسأل خالته السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فأفهمته أن نفي الجناح في الآية ليس نفيا للفرضية، إنما هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين- وهم في مطلع عصر الإيمان- من أن السعي بين الصفا والمروة كان من عمل الجاهلية، فلقد كان على الصفا صنم يقال له: إساف، وكان على المروة صنم يقال له: نائلة، وكان المشركون في الجاهلية يسعون بين الصفا والمروة ويتمسحون بالصنمين. ولقد حطّم الصنمان بعد فتح مكة، لكن المسلمين تحرّجوا في الطواف بينهما فنزلت الآية. .4- طريقة معرفة أسباب النزول: .أ- فإن رويت أسباب النزول عن الصحابة: .ب- وإن رويت أسباب النزول عن تابعي: .5- اهتمام العلماء بالكتابة في أسباب النزول: 1- المحدث علي بن المديني شيخ الإمام البخاري المتوفى عام (234 هـ)، مخطوط. 2- أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري المتوفى عام (468 هـ)، مطبوع. 3- الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى عام (852 هـ)، مخطوط. 4- الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى عام (911 هـ)، والذي قال عن نفسه: وقد ألّفت فيه- أي في أسباب النزول- كتابا حافلا لم يؤلف مثله في هذا النوع سميته: (لباب النقول في أسباب النزول)، مطبوع. .الفصل الرّابع: المكي والمدني وخصائص كل منهما: .1- تحديد المكي والمدني: 1- أن المكّي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة، ويدخل في مكة ضواحيها، فيعتبر مكيّا ما أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمنى وعرفات والحديبية، كما يدخل في المدينة ضواحيها، فيعتبر مدنيا ما أنزل على النبيّ ببدر وأحد وسلع. وهذا الاعتبار الاصطلاحي مبني على مكان النزول فقط، فلا يفيد الحصر، لوجود آيات في القرآن أنزلت على الرسول في غير مكة والمدينة وفي غير ضواحيهما. 2- أنّ المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة، ويقال هنا: إن ما صدّر في القرآن بلفظ (يا أيها الناس) أو بصيغة (يا بني آدم) فهو مكي؛ لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة، فخوطبوا بيا أيها الناس أو يا بني آدم، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. أما ما صدر من القرآن بعبارة (يا أيها الذين آمنوا) فهو مدني؛ لأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. ويعترض على هذا القول: أ- بأنه غير ضابط، ولا يفيد الحصر، لأن في القرآن ما نزل خطابا لغير الفريقين؛ مثل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} [الأحزاب: 1]. ب- وهذا التقسيم غير مطّرد، لوجود آيات مدنية صدّرت بصيغة (يا أيها الناس) ووجود آيات مكية صدّرت بـ: (يا أيها الذين آمنوا). ج- وهذا التقسيم لن يفيدنا شيئا في دراسة تاريخ القرآن الكريم؛ لما فيه من استبعاد الجانب الزمني. 3- أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بمكة. وهذا الاصطلاح هو أصوب وأشهر الاصطلاحات الثلاثة وأولاها بالقبول، لأنه يأخذ في اعتباره تاريخ النزول، ولهذا أهمية في معرفة الناسخ والمنسوخ واستنباط الأحكام. وعليه فآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] مدنية، مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع. وكذلك آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} [النساء: 58] فإنها مدنية، مع أنها نزلت بمكة في جوف الكعبة عام الفتح الأعظم.
|